هجرة الأطباء.. داء لبنان ودواؤه.

لطالما طبعت موجات الهجرة تاريخ لبنان إلى مختلف بقاع العالم، مع مغادرة اللبنانيين بحثا عن الكرامة والعيش الكريم خلف الأفق الكبير. واليوم، تستكمل ارتدادات هذه الموجات بهجرات جديدة تحمل على أجنحتها أصحاب الرداء الأبيض، الذين عجزوا عن مداواة الأمراض التي أصابت القلب اللبناني، وعرف بمستشفى الشرق الأوسط في يوم من الأيام. فما هي الأسباب وهل من حلول في الأفق المنظور؟

يحذر أهل الاختصاص من أن لبنان قد بلغ دون شك مرحلة حرجة ويختبر لحظات استثنائية ينتكس فيها تارة وينتعش طورا.

ويذكّر النائب في البرلمان اللبناني، الدكتور عبد الرحمن البزري، بأن الانتكاسات في هذا السياق ناتجة عن مجموعة من العوامل ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والإنساني. فمن ناحية، هناك قيمة الطبيب وقدرته على الصمود مقابل قدرة المريض على الوصول للعلاج، ومن ناحية أخرى، هناك الغموض المستمر وغياب أي رؤية في الأفق والتي تهدد كل القطاعات على حد سواء.

 

“التوفير.. ولو على حساب العلاج”

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل وصل لبنان حقا إلى المرحلة الأخيرة من استنزاف العقول؟ حسب د. البزري، تحرك عدة عوامل هجرة الأطباء من لبنان وهي ذات طابع اقتصادي واجتماعي وسياسي. وقد أدى التراجع الكبير في مداخيل الأطباء بالإضافة إلى قدرة القطاعات الاستشفائية على أداء عملها كما يجب.

ويقول الطبيب: “القطاع الصحي بكل قطاعاته ما زال يحاول الصمود لأن الأولوية تبقى لخدمة المرضى. ولكن مع الأسف، فقد المريض نفسه الضمانات والتأمينات وتراجعت قدرة شركات التأمين مع تذبذب الدولار بشكل مستمر، والحجج التي ترافقه من إدعاء فرض الدفع بالدولار أو عدم فتح الإعتمادات المطلوبة لتسديد الفواتير. ويضاف إلى ذلك تراجع العناية الصحية الأولية من كشف أولي وتلقيح، مع تردد الناس أصلا بطلب العلاج بسبب كلفة النقل التي قد تفوق كلفة العلاج نفسه”.

ويقف المواطن عاجزا أمام معضلتين: إما عدم توفر الدواء بسبب عدم فتح الاعتمادات أو تأمين المدفوعات، وإما توفر الدواء وعدم إمكانية شرائه بسبب ثمنه الباهظ.

“وما ينطبق على العلاج، ينطبق على التشخيص أيضا. حيث أن هناك موادا مقطوعة مخبريا بالتوازي مع المواد المقطوعة دوائيا. تخيل المريض الذي لا يمكنه إلا أن يحصل على تشخيص ضمن مركز واحد من أصل 5 بكلفة غالية وفترة انتظار أطول بكثير. وهذا يعني تكبد البنزين المكلف لعبور مسافات بعيدة، وفي النهاية الحصول على نتيجة متأخرة”، يوضح د. البزري لـ”ارفع صوتك”.

نقيب الأطباء د. يوسف بخاش يأسف بدوره لهذه العوامل التي تستمر بعرقلة القطاع الصحي، قائلاً “اعتقدنا أن موجات الهجرة المتتابعة ستتوقف في مرحلة من المراحل، بعد أن تزامنت الموجة الأولى مع الانهيار المالي ثم تبعتها موجة حملت عنوان فقدان الأمل مع انفجار المرفأ في الرابع من آب”.

ويضيف لـ”ارفع صوتك”: “لكن توقعاتنا لم تصدق. وكيف لهذا المد أن يتوقف والنقابة تلمس انحدار الوضع من سيء إلى أسوأ؟ نتلقى في كل يوم اتصال حول عدم قدرة المستشفيات على صرف الشيكات من الجهات الضامنة ورفض المصارف لصرف الأموال”.

ولا تهدد هذه الهجرة حياة المرضى والإنسان بشكل عام فحسب، بل وتقطع الدم عن قلب البلاد من خلال الإضرار بالسياحة الطبية مثلا. يدق  نقيب الأطباء ناقوس الخطر متسائلا “ما حاجة المرضى للسفر إلى لبنان إذا انتقل الكادر الطبي اللبناني إلى بلادهم؟”.

ويحذر: “على المدى المتوسط والبعيد، سيتراجع موقع لبنان على الرغم من كل الجهود في حال لم يطرأ أي تغيير إيجابي”.

فقدان أطباء المستقبل

ويتشارك الطبيب معاناته مع المريض، في حياته اليومية، حيث بات هو أيضا ضحية القلق والخوف وانعدام الاستقرار.

بالنسبة لد. البزري: “الطبيب إنسان يعمل لكسب القوت ولتأمين احتياجات أسرته وهو يعيش اليوم هاجس الخوف على أولاده ومستقبلهم وتعليمهم. كيف لا وهو لم يعد قادرا على تأمين التعليم في لبنان ولا على توفير الدولار (الفريش) لتمويل تخصصهم في الخارج، بسبب السياسة المصرفية التي ينتهجها مصرف لبنان”.

وبدوره، يخشى د. بخاش أن  الأمور “ذاهبة باتجاه الأسوأ” مؤكدا “لا أرقام حاسمة بعد، لكن 3500 طبيب هاجروا لبنان منذ عامين ونيف بما يعادل نسبة 25% إلى 30% من حجم الأطباء في لبنان”.

ويرى أن لبنان “اعتاد” على موجات هجرة الأطباء المخضرمين الذين يستمرون من وقت لآخر بمزاولة مهنتهم في لبنان، إلا أن “الأخطر” حسب تعبير د. بخاش “يكمن بهجرة الخريجين الجدد الذين يحاولون التخصص في الخارج. وهذه الظاهرة خطيرة لأن هؤلاء بالتحديديفتقرون للرابط مع البلاد، فهم بلا عيادة ولا شبكة علاقات وهذا سيسهل انخراطهم بشكل أسرع في الخارج، وربما إذا بقي أحدهم حتى 4 سنوات في المهجر، قد يعني ذلك أن لبنان فقده للأبد”.

وتحفز هذه الظاهرة عدا عن الظروف الاقتصادية، خشية الطبيب بدرجة أقل من خشيته على مرضاه، على قيمة عمله وتطوره وانخراطه في مجال البحوث.

يدين د. البزري في هذا السياق “إهمال التعليم العالي والمراكز الجامعية المرتبطة بالمستشفيات. فصار وضع هذه الجامعات خطيرا مع تغييب العنصر البشري الهام والعامل الأكاديمي في ظل غياب الرؤية على مدى الحكومتين المتعاقبتين للرئيسين حسان دياب ونجيب ميقاتي. وترجم ذلك الإهمال في خروج 30 شركة أدوية (بيوفارم) من لبنان، بالتزامن مع توجه التمويل لكل ما يحاول التخفيف من المعاناة الإنسانية”.

ويؤكد أن “التفلت الأمني يضاف إلى التسيب في القطاعات الأخرى حيث لا يتوفر الماء ولا الكهرباء ولا حتى ربطة الخبز”، بينما يحذر د. بخاش من “الانهيار الاجتماعي الذي ترافق مع تدهور منظومة القيم والانهيار الأخلاقي والتعرض لأمن ولكرامة الأطباء”.

وهذا ما تدل عليه سلسلة الاعتداءات التي تتكرر بين الفينة والأخرى، على أطباء داخل المستشفيات والصيدليات وأماكن العمل الأخرى، وليس آخرها الجريمة المروعة التي هزت الرأي العام في أبريل الماضي، وهي ذبح الصيدلانية  ليلى رزق وكانت أماً لثلاث أبناء، داخل مقر عملها في بلدة المروج الواقعة في جبل لبنان.

وجع وأمل

ويجزم الأخصائيون أنه ليس من الصعوبة بمكان على الطبيب اللبناني إيجاد فرص عمل طموحة بالخارج نظرا لكفاءاته المشهود لها على الساحة العالمية، ولذلك يغادر سريعا إلى دول الجوار أو إلى دول أوروبا أو الولايات المتحدة أو كندا حيث تخصص.

يشرح د. البزري أن “الأطباء اللبنانيين لاقوا -خصوصا في بداية الأزمة- ترحيبا كبيرا في دول الجوار ومنهم من اصطحب معه فريقه كاملا من اختصاصيين ومساعدين تقنيين. ولكن مع زيادة العرض، من الطبيعي أن تتغير نوعية الطلب”.

ولذلك، قد يختبر البعض حنينا للوطن في ظل التجارب التي لا تتكلل دوما بالنجاح. وهذا ما يؤكد عليه نقيب الأطباء د. بخاش الذي يشير إلى أن الطبيب “قد يختبر تجربة غير مشجعة فيزين درجة الرضا مع نسبة التضحية قبل إتخاذ القرار أحيانا بالعودة إلى كنف الوطن”.

وعلى الرغم من الوجع الذي تسببه الهجرة، يصر د. البزري على أن “القطاع الصحي لم يصل إلى الحضيض والهجرة تؤثر كثيرا لكن الخلل الأساسي يبقى الإنهيار المعيشي الذي وصل حتى المراكز الجامعية. أما عن السياسة الدوائية فهي ترتبط بمصرف لبنان أكثر من وزارة الصحة”.

ويستطرد: “لا شك بأن مستقبل القطاع مهدد لكنه سينتعش تدريجيا إذا انتعشت القطاعات الأخرى. ورغم الجو القاتم، يبقى الأمل نابضا في ضوء عدة تجارب وعدة حلول محتملة. فعلى المدى القريب، لا بد أن نجلس مع ممثلي البنك الدولي والمنظمات الدولية والمعاهد والجامعات. كما أننا نمتلك الكثير من الخبرات في الصحة العامة والقادرة على تحصين القطاع من الارتدادات طويلة الأمد”.

ويبقى التفاؤل “المؤقت” بفصل الصيف عله يحمل معه أموالا من الخارج ويعطي جرعة من الدعم للقطاع من خلال المغتربين والسواح”، حسب د. البزري، مستشهداً بتجربة لبنان خلال جائحة كورونا و”ردة الفعل المييزة والنجاح من خلال التعاون بين الجامعات ووزارة الصحة والقطاع الأهلي، والذي يؤكد على أن الكوادر الطبية ما زالت قادرة على العمل”.

ويلمس هذا الأمل في تعليق د. بخاش  الذي يصر على أن “لبنان ما زال قادرا على الرغم من نزيفه، ومن فقدان بعض الكفاءات مثل أخصائيي الأطفال في منطقة البقاع، على ترميم الوضع في هذه المرحلة الدقيقة وانتشال الناس قبل حصول الانهيار التام”.

ويختم: “لقد عايشنا الحرب الأهلية ولم نستسلم. وشكلنا اليوم خلية أزمة تتواصل مع الانتشار اللبناني في أميركا والبرازيل وأستراليا وسواها. ولمسنا الكثير من التجاوب. الحاجة أم الاختراع وها هي الهجرة التي تداوي. لذلك، ننسق حمليات طبية ندعو من خلالها أطباء الاغتراب لتقديم محاضرات في لبنان أو على تأمين المساعدات من تجهيزات أو تقنيات علمية، وننظم مؤتمرات عبر الإنترنت ليبقى الطبيب اللبناني على اطلاع بكل جديد حول العالم”.